برواية: باسل الحجاج
كان ثمة صبي ذو طبع حاد، إذا غضب انطلقت من خلايا جسمه ِ حرارة تحرق الأجساد، ومردة جان مظلمة الأبعاد، وكان ثمة أب حكيم يحب الربَّ براسخ الاعتقاد...
بغية أن يشذب أشجار الغضب النامية، في عروق أبنه الدموية، المتكاثرة مثل عفاريت جهنمية، ناداه ذات يوم ٍ من الأيام الماضية، وأهداه كيسا ً من المسامير ومطرقة ً فولاذية. وضع يد الصبي براحته ِ وقاده بخطاه الحانية، إلى سور منزلهم المبني من الألواح الخشبية، وأخبره ُ أن يغضب كيفما شاء، شريطة أن يطرق مسمارا ً لكل نوبة غضب هوجاء، تفقده السطوة على نفسه ِ وتتركه ُ فريسة ً لجنون الأهواء.
في يوم التالي للمعاهدة الخفية الأسرار، طرق الصبي سبعة ً وثلاثين مسمار، ولم تأخذه شفقة ولا رحمة لأخشاب السور التي بكت من ظلمه ِ بدمع مدرار، ولأيام أخرى عديدة، يتخذها الفلاسفة براهينا ً على العود الأبدي وسيرورة التكرار، مارس الصبي عقوبة الطرق بإرادة حديدية، ولم يملك السور أمام قسوة التعذيب سوى الدموع والاصطبار!
مع توالي الأسابيع تعب الصبي من عقوبة المطرقة والمسمار، وملَّ من بكاء الأسوار، واتخذ لأجل الخلاص من نواحها أصعب قرار، كان لابد أن يمسك عقال الغيظ ويكتمه ُ حد اختناق الغضب في الأغوار، ولذلك انزوى ذات أمسية لجحر الأفكار، وارتمى بدهاليز دماغه ِ في زوبعة ٍ من العصف الذهني غمرت قلبه ُ بمصابيح الأنوار، منذئذ تعلم حيلة الرحيل والفرار، من ظلال من يغضبه قبل أن يقع ضحية لبراكين الغضب النارية الانفجار، كما تعلم أن يرمي بنفسه الملتهبة حتى تنطفئ بماء الأنهار، فتقلصت أعداد المسامير المطروقة حتى أتى اليوم الذي لم يشهد رحم السور فيه ولادة نصل لمسمار!
جاشت نفس الصبي بموج العزة وطود الافتخار، فمضى إلى أبيه ِ الحكيم على صهوة الابتسام ولجام الاستبشار، وزفَّ له عروس النبوءة المتلألئة الأقمار، وحدثه ُ بما أنجزه ُ من سطوة على النفس، فابتهج الأب بحنان الأمس، وغرس في مخيلة الصبي فكرة جديدة، هي نزع مسمار ٍ واحد من المسامير العديدة، عن كل يوم ٍ يقبض فيه ِ على الغضب بإرادة عنيدة، فبدأ الصبي بنزع المسامير عن خشب السور، إلى أن جاء يوم اقتلع فيه المسمار الأخير بعظيم السرور، يومها قال له ُ والده الحكيم: "انظر بني إلى السور، واحسرتاه ُ كم غدا من كثرة الجراح والندوب ذميم! وانظر إلى الثقوب العميقة الغور... كأنها فوهات تقود إلى الجحيم! لن يعود السور أبدا ً كما كان، وهكذا حال بني الإنسان، إن من تؤذيهم وتجرحهم حين تكون ثائرا ً غضبان، لن يأخذهم مهما استغفرت منهم واعتذرت لهم بما اقترفت بحقهم نسيان، سيحملوا جراح شرورك أوسمة ً تذكرهم بجريرتك في كل مكان وزمان، لا يسعف الجرح التأسف بلغة التائب الندمان، مدية اللسان لا تقلُّ بفعلها عن مدية الطعان، ولا تفنى الندوب إلا بفناء الإنسان، فاكتم أبدا ً بني الغيظ والجم حصان اللسان.
تأثر الصبي بحكمة أبيه العميقة الأغوار، ولم يترك غضبه ُ منذ يومها يبصر الفوران، وكان يدفنه ُ في عميق القرار، مهما تسبب له ُ الصبر والكتمان، من مقاساة ٍ للكآبة والأحزان، ومهما تعاقبت السنون وأفسدت خططه ُ روح الدمار، ومهما تكدست في روحه خردة الآلام وجازته ُ الأقدار بالحرمان، ومهما انسلت بلا طائل من ظلاله ِ الأعمار، ظل وفيا ً لنصح أبيه ِ الذي فارق الحياة، لكن زوجته بعدما عاشرته ُ عشر سنوات، ضجرت من سلبيته ِ حيال صروف الحادثات، فقالت له ِ مغتاظة ً في هجير نهار قائظ الساعات: "لماذا أنت بلا شعور؟ صنم ٌ لا تثور، صخرة لا تتحرك ُ مهما جلدتها بالجور ِ رياح الدهور، حسبتك رجلا ً آدميا ً ولكنك لست أكثر من حمار، يضرب ُ بالخيزران ليلا ً ونهار، دون أن يعترض أو يطالب باعتذار، دون أن يشتهي أو يحلم بسعادة الثوار، كمثل الزومبي بقاؤك بين الأنام، مقتصر ٌ على التهام ما أطهوه من طعام، وكل ما عدا ذلك مما نحلم من أحلام، تحسبه ُ بسفسطائية الزاهدين من الأوهام، سحقا ً لك وسحقا ً لما أضعت عليك من أعوام!"
كان تذمر الزوجة وما تناسل منه ُ من بذيء الكلام، مفتاحا ً سحريا ً لجبال من الغيظ والغضب، تكومت بلا متنفس في صدره المثقل بغيوم الكتمان، وضربة ً صارمة ً على سلامة ِ عقله ِ أمام مدِّ الحنق الناريِّ الغليان، لم يعد ساعتها قادرا ً على الإمساك بذئاب قلبه ِ الساغبة لدمِّ الانتقام، وجنَّ جنونه ُ وطاش كالشيطان، فذبح زوجته ُ وأكلها مسعورا ً كالغيلان، وخرج شاهرا ً سيفهُ ومستبيحا ً دماء الأنام، حتى نال مصرعه المحتوم، شهيدا ً لموروث الكبت والكتمان!
- تمت -
هامش: النص مقتبس بتصرف من قصة الحكمة الشهيرة والمجهولة المؤلف: "السور".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق